فقدت رغبتي في زيارة مرضى الأورام. فقد كنت أذهب لأبث بداخلهم الأمل في رحمة الله وفضل الدعاء والصبر على الابتلاء و... و... و...
لا أنسى دخولي أحد العنابر لأجد أول سرير تجلس عليه طفلة يلتف حولها بعضاً من النسوة -في الغالب أمها وجدتها وخالاتها- فألقيت التحية عليهم وسألتهم إذا كانت الطفلة تحتاج إلى تبرع بالدم ، ظنوني وقتها طبيبة، وظلوا يسألونني بتضرع
"إحنا لسه جايين من شوية ومحدش لسه عدى علينا ومش عارفين إيه اللي هيحصل" ،"هي هتاخد الجرعات أزاي" ،"هي هتبقى كويسة؟ " ،"هو في حد بيخف؟"...
ومليون سؤال من عدة شفاه في وقت واحد موجه لشخصي الفقير.
أخبرتهم بابتسامة أنني مسئولة فقط عن التبرع بالدم .
لم يعبئوا بكوني غير طبيبة؛ طالما تسألين عن الدم وتسيرين بين الأسرة بحرية دون التقيد بمواعيد الزيارة وطالما لاترتدين ملابس الممرضات إذن فأنتي طبيبة وإن أنكرتي.
شعرت بأن لا جدوى من شرح بأن معي متبرعين بالدم وبأنني المسئولة عن سلامتهم وعن توصيل كل فصيلة للحالة المحتاجة .
واكتفيت بكلمات مليئة بالأمل والتفاؤل بأن ابنتكم ستشفى وستذهب معكم المنزل سليمة
في أقرب وقت ،واطمئنوا بإذن الله خير.
بماذا سيقولون عني بعد ذلك سوى أني كاذبة وقطعاً خدعتهم وأعطيتهم أمل كاذب.
فهذا المركز اللعين لم يخرج منه طفلاً سوى محمولاً على الأعناق ليس لاستحالة الشفاء من المرض؛ فالمرض بنسبة التحليلات يقول بأنه يخضع للعلاج ويتم قهره بالفعل ولكن لإهمال الممرضات والأطباء.
مازلت أذكر"محمد" طفل في المرحلة الابتدائية ومن أسرة بسيطة ولكنها تجسد الأسرة المصرية الكادحة الأصيلة.
كعادتي تحدثت معهم عن الدعاء ورحمة الخالق فوجدت أمه تفتح قلبها لي بأنها لا تصلي ولكنها تحب الله
لا أعلم بماذا قلت لها وقتها.. ما أتذكره أن ما أطلقه الله على لساني جعلها تقول بأنها ارتاحت لكلماتي وستبدأ بالصلاة.
ما حز في نفسي بعدها أن "محمد" مات.
محمد.. أكتر حد كنت بدعيله وبخليه يدعي وقرأت له الرقية الشرعية.
وأمه كادت أن تقترب من الله دون تذمر.
أظنها الآن لن تفعل فهو كان ولدها الوحيد بعد 7 سنوات عجاف.
والحالات كثيرة...
كيف لي أن أحدثهم بعد ذلك عن رحمة الله والمسئولين عن فعلها في الأرض
لا يقومون بهذا!.
رحمة الله موجودة ولا شك ولكن الإهمال لا يجعلها تصل.
فكم من ممرضة لم تستطع إعطاء الطفل الجرعة في مكانها الصحيح وتسربت المادة الكيميائية للطفل تحت الجلد.
وكم ارتفعت درجة حرارة الطفل ولم يجد موافقة على دخوله العناية المركزة.
وكم ممرضة تعالت على الأم أو تكاسلت عن إعطاء الطفل الجرعة
وإذا فعلت أعطتها له ناقصة.
لم أعد قادرة على الاستمرار.. موت الأطفال بعد ارتباطي بهم وبث الأمل في أرواح ذويهم صار يذبحني .
فأنا كاذبة، مخادعة.. لن ينجو أحد داخل هذا المركز إلا بمعجزة.
لم أعد قادرة على عمل حملة للتبرع بالدم وأنا أعلم بأن المتبرع قد تتعرض حياته للخطر فهناك لا يتم تحليل قبل التبرع إلا بعد معاناة .-هذا إذا حدثت-.
وكم من أطفال جاء لهم فيروس سي من نقل الدم بعد شفاءه من السرطان.
كل من أعرفهم من الأطفال لم يقتلهم المرض؛
بل قتلهم الإهمال.
فحينما تكون النسبة 80% مثلا وخلال عام تصل إلى 2% ويموت الطفل بسبب ارتفاع مفاجئ في درجة الحرارة يدخل به المركز ويظل 10 أيام لا يمر عليه طبيب واحد وأمه تتعامل كأنها في البيت بكمادات والممرضات يقلن فقط "حميه وهو يبقى كويس"
في اليوم 12 كان الطفل انتقل الى الرفيق الأعلى.
أنا تعبت وبعترف باستسلامي.
مش هقدر أروح المكان ده تاني.
على الأقل في الوقت الحالي فأنا روحي منهكة حد الإعياء.
ولم يعد لدي القدرة على العطاء أو بث الأمل وجها لوجه.
كيف أبث الأمل وأنا لم أعد مؤمنة بوجوده.
فالسواد في تفشي من أين إذن سيأتي البياض!؟.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق